الديمقراطية في خطر- رؤى عربية لإصلاح المسار وتجاوز الأزمة

المؤلف: د. منصف المرزوقي10.03.2025
الديمقراطية في خطر- رؤى عربية لإصلاح المسار وتجاوز الأزمة

إلى كل المؤمنين بالديمقراطية - وأنا ما زلت أحدهم - تبعث لنا الانتخابات الأميركية الأخيرة ثلاث رسائل قوية، تكشف بوضوح الزيف الذي استندنا إليه في بناء نظرياتنا وممارساتنا للديمقراطية.

الرسالة الأولى تظهر بجلاء أن هناك أكثر من سبعين مليون مواطن أميركي لا يرون أي غضاضة في أن يتولى رئاستهم شخص يحمل الصفات المثيرة للجدل المعروفة للجميع، بل وشخص يواجه ملاحقات قضائية في العديد من القضايا. إن ما نغفل عنه دائمًا هو حقيقة أن الناس ينتخبون من يشبههم ويعبر عن تطلعاتهم وقناعاتهم، ومن يثير إعجابهم ويسعون للاقتداء به.

اقرأ أيضا

list of 2 items
list 1 of 2

ترامب يوقع أمرا تنفيذيا لإلغاء وزارة التعليم

list 2 of 2

"مبعوث يسوع".. هل سيُدخل ترامب أميركا عصر الهيمنة المسيحية؟

end of list

لذا، يجب علينا أن نتقبل حقيقة أن الفكرة التي تقوم عليها الديمقراطية في جوهرها هي فكرة قاصرة، تلك التي تفترض وجود كائن عاقل رشيد يختار دومًا ما يخدم الصالح العام إذا ما أتيحت له الحرية الكاملة. لكن الواقع يظهر لنا طيفًا واسعًا من البشر، يضمّ جزءًا كبيرًا لا يمت بصلة إلى هذا التصور المثالي، ودليل ذلك هو فوز ترامب وأمثاله.

وفي هذا السياق، كتب الصحفي والكاتب الأميركي كارلوس لوزادا في جريدة "نيويورك تايمز" (The New York Times) في عددها الصادر بتاريخ 6 أكتوبر/ تشرين الأول: "بالنسبة لأولئك الذين أصروا طويلاً على أن ترامب "ليس ما نحن عليه"، وأنه لا يمثل القيم الأميركية، هناك الآن احتمالان لا ثالث لهما: إما أن أميركا ليست كما كانوا يعتقدون، أو أن ترامب لا يمثل تهديدًا بالقدر الذي كانوا يتصورون".

الوهم الثاني الذي تكشفه هذه الانتخابات يتعلق بدور حرية الرأي والتعبير في تمييز الجيد من الرديء. فالحقيقة المرة هي أن حفنة قليلة من رجال الأعمال الذين يسيطرون على وسائل الإعلام والاتصال، أي على معظم أدوات التأثير في العقول والقلوب، هم المستفيدون الأكبر من هذه الحرية، وهم القادرون على إيصال من يشاؤون إلى سدة الحكم. قلّما ينتبه أحد لمدى خطورة تأثير شخص مثل إيلون ماسك في نتائج الانتخابات الأميركية، وهو الذي يمتلك أكثر من مئتي مليون متابع، قام بتجنيد أعداد كبيرة منهم لصالح ترامب.

هذا فيما يتعلق بالجزء الأول من خرافة "الانتخابات تعبر عن إرادة الشعب". أما عن الجزء الثاني من هذه الخرافة الكبرى، فإن نتائج الانتخابات (كما ذكرت مرارًا منذ كتابي "عن أي ديمقراطية تتحدثون" الصادر سنة 2004) لا تعبر إلا عن رغبة خمسين بالمئة زائد صوت واحد من الناخبين المسجلين في القوائم الانتخابية، مع تجاهل تام لإرادة تسعة وأربعين بالمئة من "الشعب".

إضافة إلى مشكلة الشرعية هذه، تبرز مشكلة أخرى لا تقل خطورة. فكم من مرة عبر التاريخ أدت الانتخابات إلى إدخال الذئب إلى قفص الدجاج؟

قد تكون نتائج الانتخابات الأميركية بمثابة صدمة للكثير من الديمقراطيين الغربيين والعرب، لكنها كانت متوقعة بعد انتخابات مماثلة في دول مثل الهند والمجر وتونس والأرجنتين، وعلينا أن نترقب استمرار هذا المسلسل في فرنسا بعد ثلاث سنوات، بالإضافة إلى العديد من الدول الأخرى التي تنتظر دورها في هذه القائمة.

إننا نواجه مفارقة مذهلة؛ فالديمقراطية لا يمكن أن تزدهر إلا من خلال الانتخابات وحرية التنظيم وحرية التعبير، ولكنها في الوقت نفسه تمرض وتموت بسببها عندما تؤدي هذه الأدوات، بفضل المال والنفوذ الإعلامي، إلى وصول أشخاص إلى السلطة يقومون بتفريغ الديمقراطية من جوهرها أو القضاء عليها تمامًا، كما فعل شخص جاءت به الانتخابات أيضًا، وهو أدولف هتلر.

من حسن الحظ - إن صح التعبير - أن الاستبداد يواجه المعضلة ذاتها. فهو أيضًا لا يستطيع البقاء إلا من خلال الأدوات التي تقضي عليه عاجلاً أم آجلاً. لننظر كيف يقع ضحية أدواته الفكرية والعملية. فمن الناحية الفكرية، بقدر ما تبالغ الديمقراطية في تمجيد "الشعب"، بقدر ما يحتقر الاستبداد هذا "الشعب". فالمستبد والبطانة المحيطة به على قناعة تامة بأن العامة غير "ناضجة" للديمقراطية، وأن الحرية تمثل خطرًا عليها، وأنه لا بد لها من راعٍ قادر على اتخاذ القرارات التي يعرف وحده أيها الأصلح للرعية وللمستبد نفسه على وجه الخصوص.

القاعدة الأساسية هي أنه بقدر ما تخطئ الديمقراطية في المبالغة في تقدير طيبة وذكاء البشر، بقدر ما يخطئ الاستبداد في المبالغة في احتقار شجاعة الناس وتوقع استسلامهم للظلم.

ولفرض هيمنته، لا يمتلك الاستبداد سوى ثلاث وسائل، هي ذاتها التي ستقضي عليه: التضليل، وملء مراكز القرار بالموالين، والقمع.

فعن طريق التضليل، ينتهي المطاف بالمستبد إلى تصديق أكاذيبه وأكاذيب من حوله، فتتراكم أخطاؤه وتقوده في النهاية إلى الهلاك. ومن خلال وضع الموالين في مناصب القرار على حساب الكفاءات، يساهم في تردي أداء جميع مؤسسات الدولة. وعن طريق القمع، يقوم بشحن المجتمع بالكراهية التي ستؤدي يومًا ما إلى الانفجار، بالإضافة إلى أنه ينتقي الأشخاص الأكثر شجاعة وعنادًا وتصميمًا على الإطاحة بنظام يزداد تأزمًا، لأنه لا يمتلك أي آليات للإصلاح الداخلي، على عكس الديمقراطية.

في كلتا الحالتين، القاعدة هي أن النظام السياسي يواجه تعقيدات مجتمع يحتوي دائمًا على كمية غير معروفة من الأذكياء والشجعان والمثاليين، وبنفس القدر يحتوي على كمية أخرى من الأغبياء والجبناء والانتهازيين.

هذا ما يجعل مشكلة النظام السياسي، سواء كان ديمقراطيًا أم استبداديًا، واحدة: وهي خطورة المراهنة على جزء من المجتمع وتجاهل النصف الآخر، مما يؤدي به، عاجلاً أم آجلاً، إلى صحوة مؤلمة، حيث يذكره النصف المتجاهل بطريقة قاسية بأنه باقٍ ويتمدد.

هذه الإشكالية هي التي تضع أي نظام سياسي أمام محاولة شبيهة بمحاولة تربيع الدائرة، وهي التي تفسر كيف ولماذا يمهد فشل الاستبداد لاندلاع ثورة ديمقراطية، ويمهد فشل الديمقراطية لظهور موجة من الاستبداد.

هل يمكننا الخروج من هذه الحلقة المفرغة التي نشهد اليوم جزءًا منها، ونحن نرى حتى في أعرق الديمقراطيات بوادر انتصار الاستبداد، بعد أن شهدنا في العقود الأربعة الأخيرة بوادر انتصار الديمقراطية في أشد الدكتاتوريات قسوة، بما في ذلك الدكتاتوريات العربية؟

بمعنى آخر، هل يمكننا تحقيق حكم رشيد يوقف هذا التسلسل، حتى لو كنا ندرك أنه لا يوجد نظام حكم مثالي لا تؤثر فيه تقلبات الزمن؟

إذا عرفنا الحكم الرشيد بأنه نظام الحكم الذي يضع القيم الجامعة فوق المصالح المتفرقة، ويفرض بالقانون والقوة التوزيع الأكثر عدلاً للثروة والسلطة لضمان الاستقرار والسلم والاعتبار داخل المجتمع، فيمكننا القول إن التجارب التاريخية للحكم أظهرت أن الاستبداد يمثل نقطة الصفر على سلم الحكم الرشيد، بينما تمثل الديمقراطية قفزة نوعية في الاتجاه الصحيح.

لكن المشكلة تكمن في أن هذا التطور، الذي بدا في يوم من الأيام غير قابل للتوقف، قد توقف اليوم، بل بدأ في التراجع حتى في أقدم معاقله لصالح جولة عبثية جديدة من الاستبداد.

إذاً، السؤال المطروح هو: هل يمكننا وقف هذا التدهور وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ديمقراطية يتآمر عليها الأعداء من الخارج والداخل؟

هذا السؤال هو الشغل الشاغل اليوم في كل المحافل التي تناقش مصير الديمقراطية، من جامعات ومؤتمرات وكتب ومقالات لا حصر لها.

في إطار هذا الحراك الفكري والسياسي غير المسبوق في تاريخ الديمقراطية، وفي وضع يتسم بتراجع الديمقراطية الغربية في جميع أنحاء العالم، وفي الغرب ذاته، ناهيك عن تجدد إغراءات الاستبداد، خاصة في شكله الشعبوي الجديد، جمع "المجلس العربي" في سراييفو في الشهر الماضي نخبة من الديمقراطيين العرب من مختلف الأجيال والبلدان والاتجاهات الفكرية في الوطن العربي؛ لكتابة العهد الديمقراطي العربي المفترض، والمأمول منه أن يشكل المرجع النظري المشترك لجميع الحركات السياسية والمجتمعية العربية.

ثلاثة أفكار رئيسية تشكل أسس هذا العهد وتم التوافق عليها بالإجماع

أولًا: الديمقراطية في شكلها الغربي الحالي تمثل مرحلة تاريخية من تطور المجتمعات في بحثها عن أفضل أساليب الحكم الرشيد، وهي اليوم في وضع صعب، ولكنها لم تلفظ أنفاسها الأخيرة. وقد أثبتت التجارب التي امتدت على مدى قرنين من الزمان في أكثر من 150 دولة أن أخطر ما يهددها هو الآليات التي عفا عليها الزمن والتي بنيت على فرضيات فكرية خاطئة، والتي تم الاستيلاء عليها من قبل أعدائها من الداخل وتم تفريغها من فاعلية في تحقيق أهدافها المعلنة. ومثل هذا الوضع يفرض علينا نحن العرب أن ننطلق من التجارب الغربية لنتعلم منها ونفكر في طرق لتجاوزها؛ لضمان لديمقراطيتنا القدرة على التمكن والازدهار لأطول فترة ممكنة.

ثانيًا: لا يوجد بديل عن الخيار الديمقراطي؛ لأن الاستبداد هو السبب الرئيسي لفقرنا وتخلفنا وتشتتنا وفقدان سيادتنا الوطنية، وأكبر جرائمه هي الإبادة الجماعية التي يتعرض لها شعب من شعوبنا، بينما جيوشنا لا تحرك ساكنًا إلا لحماية المستبدين.

لذلك، تمثل الديمقراطية الطريق الوحيد لبناء ما تحتاجه شعوبنا: دول تحكمها القوانين والمؤسسات، وشعوب تتكون من مواطنين لا من رعايا، واتحاد بين الشعوب العربية الحرة والدول المستقلة على غرار الاتحاد الأوروبي، الذي لم يقم إلا على أنقاض الدكتاتوريات النازية والفاشية والشيوعية.

ثالثًا: لكي تستقر ديمقراطيتنا العربية وتثبت جذورها لأطول فترة ممكنة، يجب أن تكون أكثر من مجرد نظام سياسي يضمن الحريات والتداول السلمي للسلطة وبناء المواطنة الفعالة التي تتجاوز جميع أشكال التمييز على أساس الجنس أو المنطقة أو العرق أو الدين. يجب أن تجعل من أولى أولوياتها أيضًا خدمة العدالة الاجتماعية والتحرر من التبعية الخارجية، والعمل على بناء الفضاء السياسي العربي المشترك.

هكذا عرف العهد ديمقراطيتنا المنشودة بأنها مواطنية، اجتماعية، سيادية، اتحادية، أي أنها أشبه بمربع لا يكتمل إلا باكتمال جميع أضلاعه الأربعة التي تسند بعضها البعض.

نعم، علينا التمسك بأهداف الديمقراطية أكثر من أي وقت مضى، ولكن ماذا عن الإصلاحات التي يجب إدخالها على الآليات المعطوبة والتي تم الاستيلاء عليها، وماذا عن البشر الذين هم بشر في أي مجتمع؟

من القائمة الطويلة للتحديات الفكرية والعملية

ماذا عن حرية الرأي والتعبير؟ هل يجب تقنينها، وإذا كان الأمر كذلك، فأين نضع الحدود بين المسموح به والمرفوض، وبأي معايير للقيم؟ كيف نحارب التضليل وطوفان الأكاذيب والشائعات في عصر العولمة والذكاء الاصطناعي؟

ماذا عن حق التنظيم وحرية تكوين الأحزاب؟ هل نضع قائمة بالأحزاب والتنظيمات والأشخاص المعادين للديمقراطية لكي نسبقهم ونتغدى بهم قبل أن يتعشوا بنا؟ ألن نكون بذلك نبني ديمقراطية استبدادية بحجة الدفاع عن الديمقراطية؟

ماذا عن الانتخابات لاختيار المسؤولين؟ كيف نتخلى عنها وهي البديل الرمزي للحرب، حيث يحل الصراع بالكلمات محل الصراع باللكمات؟ ولكن كيف نترك حق تقرير مصير شعب بأكمله لخمسين بالمئة زائد صوت واحد من الناخبين الذين لا يتجاوز عددهم نصف المسجلين في القوائم الانتخابية، والذين يتحركون في أغلبهم تحت تأثير طوفان التضليل الإعلامي؟

ما هي الطرق التي يمكننا بها سحب البساط من تحت أقدام المال الفاسد والإعلام الفاسد اللذين يمكّنان شخصًا شعبويًا تافهًا من الحصول على جائزة نوبل أو رئاسة جامعة لمجرد قدرته على الصراخ وإثارة غرائز العدوان والانتقام؟ هل يمكننا قصر الانتخابات المباشرة على مستوى المجالس البلدية والبرلمانات، وتكليف لجان مماثلة لتلك التي تختار الفائزين بجائزة نوبل أو رؤساء الجامعات والمؤسسات الاقتصادية الكبرى باختيار قضاة المحكمة الدستورية ورئيس الدولة؟

هناك العديد من المشاكل الأخرى التي تكمن في تفاصيلها الكثير من التعقيدات، ولكن يجب علينا مع ذلك مواجهتها.

هذه هي المشاكل الفكرية والسياسية التي سيعمل عليها المجلس العربي طوال هذا العام من خلال حوارات افتراضية مستمرة، ونأمل أن يتم البت فيها خلال مؤتمر سراييفو الثالث في أكتوبر/ تشرين الأول 2025، وذلك بهدف اقتراح خريطة طريق مكتملة للتيار الديمقراطي العربي لا تقتصر على تحديد الأهداف، بل تتضمن أيضًا الوسائل اللازمة لتحقيقها، لأنه لا يوجد ما هو أكثر تبديدًا للجهد والوقت من عدم إدراك أن جميع التجارب التي نمر بها على مختلف المستويات تهدف إلى التعلم من أخطائها وليس تكرارها، حتى لا يكون مسارنا حلقة مفرغة، بل سهمًا لا يتجه إلا نحو الأمام والأعلى.

ولا بد لليل أن ينجلي.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة